أشرقت شمس السماء وأشرقت معها حضارتان أضاءت الأرض
بنورِهما وعرَّفت البشرية أن مِن عراقة الشعوب وتراثها؛ تتحق الإنجازات، وأنه
بالسعي نحو الإزدهار تُكتسب العظمة والخلود، رغم بُعد المسافة واختلاف المكان إلا
أن هناك شعوب يجمعها ما هو أقوى من الأرض، شعوبٌ تشابهت في الحلم، فتلاقت في طريقٍ
واحد، ودعمت بعضها البعض، ربطت أطراف العالم المتباعدة، تبادلت الثقافات والخيرات،
أبهرت الدنيا بالتراث والفن، ووجهت نظر العالم إليها بالقوة والعلم، مصر والصين
حضارة آلاف السنين، علاقاتٌ تاريخية ومصيرٌ واحد.
تميزت الحضارتان بالإبداع والازدهار في شتى المجالات
الفنية والأدبية والحرفية والتجارية، كما نالت كل منهما على عراقة المكون الثقافي
لديهما، فنجده قد تجسد في جميع الجوانب الحياتية؛ حيث غلب الطبع الحضاري وسماته
على الفنون كفن العمارة والنحت حيث المباني والمعابد والتماثيل والمقابر، تمثَّل
في الآداب، فكل جانبٍ من جوانب الأدب به مزج حضاري رائع يعكس معتقداتهما واهتماماتهما،
وما توصَّلا إليه من معرفة في العلوم المختلفة وبالتوثيق على الجدران أو على أوراق
-كأوراق البردي في الحضارة المصرية القديمة-، تمثَّل في براعة فن التصوير،
العمارة، الرسم والموسيقى، حتى يتضح أن المكون الثقافي قد ظهرت سماته أيضًا في
الحركات الصناعية والتجارية، وعلى الرغم من مرور آلاف السنيين على الحضارتين إلا
أن آثار هذا المكون المهم لازالت قائمة حتى الآن.
مصر والصين حضارتان متأصلتان في عمق التاريخ من آلاف
السنوات، فنجد اثنان من
عجائب الدنيا السبع في مصر (أهرامات الجيزة وفنارة الإسكندرية)، وفي الصين نجد (سور
الصين العظيم) وهو أحد عجائب الدنيا السبع أيضًا، حضارتان متشابهتان مرتا بمراحل من القوة والضعف، ولكن
لأصالة الهوية والاعتزاز بها؛ استمرتا وازدهرتا وكانتا محض فخر؛ الحضارة المصرية حتى الآن مصدر اعتزاز
لأبنائها، فالمصري لازال يفخر بهويته "الفرعونية" كرمز للقوة والعزة
والتاريخ، ويفخر بوجود نهر النيل ويعتبره أيقونة
للأصالة ويطلق على نفسه "ابن النيل"، الأمر
ذاته لدى أبناء الشعب الصيني الذين يعتبرون طوطم "التنين" أيقونة لتجسيد
الكمال ويفخرون به حتى هذا الحين، حيث نجد رمز التنين في جميع المشاركات
والمنافسات الصينية التي تجوب العالم، كما يفخر الصينيون ويعتزون بأنهم
"تشن"، وهو اسم عائلة الإمبراطور "تشن شي هوانغ" الذي أسس أول أسرة
مركزية في تاريخ الصين، بعد أن وحدَّ أقاليم الصين المتحاربة، وأدخل عليها إصلاحات
هائلة كانت ركيزة الأسس التي أبقت للحضارة الصينية وحدتها الجغرافية حتى اليوم.
نجدهما
متماثلتين حتى في عوامل الازدهار الحضاري، وهو ما حابت به الطبيعة الجغرافية
والموقع الاستراتيجي على كلٍ منهما، الحضارة المصرية قامت على ضفاف نهر النيل وتمتد
ما بين أكبر بحرين في العالم البحر المتوسط والبحر الأحمر، ويتقارب الحال مع
الحضارة الصينية، حيث يوجد النهر الأصفر -الذي يشبه نهر
النيل-، بالإضافة أيضًا إلى نهر اليانغتسي، كما أنها تطل على بحرين مهمين هما
بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، بجانب توافر العديد من الموارد الطبيعية؛ حيث ساعد ذلك على ازدهار حركة الصناعة والتجارة في
العصور القديمة وتكوين بنية تحتية مستقبلية للبلدين.
رغم تمايز الموقع والزمان، إلا أنه تمايزٌ يؤدي إلى
التكامل؛ مصر والصين اشتركتا في كثير من الخصائص والمظاهر الثقافية والحضارية،
تلاقتا في العديد من المراحل عبر السنين، تبادلتا الكثير من الخبرات، بدأتا من
طريق الحرير القديم واستمرتا تصاعديًا في الود وتفعيل التعاون الإيجابي في شتى
المجالات حتى الآن، وقد ربط طريق الحرير البري وطريق البخور البحري بين مصر والصين، ليس تجاريًا واقتصاديًا فحسب
وإنما ربط بينهما ثقافيًا وفكريًا وعلميًا أيضًا، وقد لعب ميناء القلزم (السويس حاليًا) دورًا هامًا في التبادل
التجارى بين مصر والصين قديمًا -ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يتم اختيار السويس أيضًا
في العصر الحديث لإقامة المنطقة الاقتصادية الخاصة غرب خليجها للتعاون المصري الصيني-.
خاضتا صراعات كثيرة من أجل التحرير، تضامن الجانبان الصيني والمصري بإخلاص في
نضالهما من أجل التحرر الوطني، فالعلاقات قديمة وراسخة، بالإضافة إلى أن مصر كانت من
أوائل الدول التي اعترفت بالصين عقب إعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام
1949 وأول دولة عربية وإفريقية تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين، في عام 1956.
انطلاقًا
من عراقة الأصل وصنع الحاضر إلى التخطيط للمستقبل، ما بين "أولاد النيل" و "أبناء التنين"،
هذا العام يعتبر العام الـ62 لاستمرارية العلاقات المصرية الصينية، والعام الـ 40
لانتهاج الصين سياسة الإصلاح والانفتاح، فنجد أن العلاقات المصرية الصينية قد شهدت
تطورًا مستمرًا في كافة المجالات علي مدى العقود الستة الماضية، وقد أثبتت هذه
العلاقات قدرتها على مواكبة التحوُّلات الدولية والإقليمية، بجانب انتهاج الدولتين
سياسات متوافقة من حيث السعي والعمل من أجل السلام في كافة أرجاء العالم والدعوة
إلى ديمقراطية العلاقات الدولية وإقامة نظام دولي سياسي واقتصادي منصف وعادل، نجد
أنه في الأعوام القليلة الماضية فقط قد وصل التعاون الدولي إلى مرحلة عظيمة، فبإعلان الرئيس شي جين بينغ في عام 2013 مبادرة "الحزام
والطريق" وأن مصر شريك أساسي في المبادرة، فقد تم بين
البلدين تبادلات استثمارية ضخمة، وفي عام 2014 تمت أول جولة للحوار الاستراتيجي
بين الصين ومصر، واتفاق البلدين على تعزيز التعاون الاستراتيجي والارتقاء
بالعلاقات بينهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وبنهاية العام تم توقيع
مذكرات تفاهم بين البلدين تشمل التعاون الاقتصادي والنقل وتوريد المعدات الطبية
والطيران المدني والتعليم والبيئة، وكان من عام 2016 الذكرى الـ 60 لتأسيس
العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعلانه عامًا ثقافيًا وتبادلًا لزيارات الوفود
الفنية والثقافية، حيث تم انعقاد العديد من المنتديات والاتفاقيات والتبادلات
خلاله من ضمنها (المنتدى الصيني المصري للدراسات البحثية المشتركة في مجال الزراعة
في إطار سياسة الحزام والطريق، ملتقى الحوار الفكري المصري الصيني عبر طريق الحرير،
الملتقى المصري الصيني الأول للترجمة، مسابقة الترجمة الأدبية لطلبة الجامعات
الصينية دارسي اللغة العربية، افتتاح معرض الأعمال المصرية الصينية لفنون الخط
والرسم والنحت في بكين، دورات منتدى التعاون الاستراتيجي الصيني المصري بجامعة
بكين، توقيع اتفاقية إنشاء
الكلية التكنولوجية المصرية الصينية، مشاركة مصر لأول مرة فى معرض الصين الدولي
لتجارة الخدمات وتجارة الثقافة، مراسم افتتاح الدورة الثالثة عشر للمهرجان الثقافي
العالمي في جامعة اللغات والثقافة ببكين، منتدى "حوار الحضارات" بقصر
قوي قونغ فو حيث تتجلى حضارة الصين ومصر، استضافة دار الأوبرا الصينية ببكين
المؤتمر الصحفي للعام الثقافي المصري الصيني) وغيرهم... وعلى إثر ذلك تم إبرام
اتفاقيات تعاونية وتمويلية أخرى.
الفائدة وإن عمَّت الكل فبعينها ستخص الفرد، ما تناوبت
عليه الدولتان من علاقات في شتى المجالات، لقى أثره الأفراد الذين يشكلون منظومة
المجتمع والدولة ككل، فنستشعر أثر نتائج تلك الاتفاقيات والتعاونات على حياة
الأفراد، فمن المصريين من يتوافدون على تعلُّم الصينية والسفر لاستكمال دراستهم في
الصين، والأمر نفسه توافد الصينيين على مصر لتعلم اللغة العربية، نجد من استقل
المعيشة في الصين وشرع في تنفيذ مشاريع تجارية واستهلاكية، وأصبحت حياته حيث تكمن
تجارته، والشأن ذاته نجد من الصينين من أتخذ مصر موطنًا حنونًا لهم لتعلُّم اللغة العربية
وإقامة مشاريعٍ تجارية وصناعية أيضًا، الأمر لم يتوقف عِند ذلك فحسب، بل أصبحت حجم
الصناعات المتبادلة التي بدورها ساهمت في تنشيط الحركة التجارية وحركة البيع
والشراء الاستيراد والتصدير زاخمة ورائجة، وبالحين ذاته تتنشط الحركة السياحية فمن
يعلم القليل عن أي من الحضارتين يزداد شغفه لرؤيتها بعينه، والتماس عبق التاريخ
المتأصل في البلدين كليهما، فكونك مصري مسافرًا إلى الصين ستجد ترحيب وانحناء
لك بقدر وطنك، وستجد من يهاديك بأشياءٍ ثمينة ذي أثر تراثي، ستجد من يحدثك عن مصر
وحضارتها وقيمتها الإنسانية، وعلى الصعيد الآخر المصريون يحتفون بالصينين
ويتواردون عليهم بالأسئلة عن رياضة الوشوو الصينية والأكلات المميزة والفلسفة
الكونفشيوسية.