الأحد، 16 ديسمبر 2018

عندما كان الأدب خطرًا




عام 1995 من داخل زنزانة في نيجيريا، كتب الروائي والناشط البيئي "كين سارو ويوا" إلى منظمة PEN -وهي منظمة دولية للحقوق الأدبية والإنسانية- بالولايات المتحدة الأمريكية "غالبًا ما أغبط هؤلاء الكتاب في العالم الغربي الذين يتمكنون من ممارسة سلمية لحرفتهم وكسب قوت معيشتهم منها"؛ وبعد وقت قصير من إرساله لخطابه، أُعدِم على يد المنظمة العسكرية بقيادة الجنرال "ساني أباتشا".

نسبة إلى الكثير من الكتاب في جميع أنحاء العالم، ألفاظ التعبئة على صفحةٍ ما لا تزال تُعرِّض حياتهم للخطر؛ حيث تقوم لجنة حرية الكتابة التابعة لمنظمة PEN العالمية برصد أكثر من 500 قضية من قضايا الكتاب المضطهدين في كل عام، والذي من ضمنهم: الفائز بجائزة نوبل "ليو شياو بو" والذي يقضى 11 عامًا محتجزًا داخل سجن صيني؛ الشاعر الروائي وكاتب المقالات الفيتنامي "نجيوين شوان نجيا" والذي قضى ست سنوات محتجزًا لكتاباته في المعارضة؛ "محمد العجمي" والذي يقضي 15 عامًا في سجن بقطر لتأليفه قصيدتين ينتقد فيهما أمير قطر؛ على الرغم من المفارقات الخصوصية الدارجة، إلا أنها ليست بمقتصرة على المؤلفين الأمريكيين. "فيليب روث"عبَّر وهو عائدًا من رحلته في براغ التي تحكمها الشيوعية في ملاحظة أدلى بها قائلَا "هناك، لا شيء يذهب وكل شيء يستدعي الاهتمام؛ وهنا، كل شيء يذهب ولا شيء يستدعي الاهتمام". القمع هو الإطراء الذي تدفعه الدكتاتورية للسلطة الأخلاقية عن مؤلفيه.

 انحسرت سلطة الكلمة المطبوعة، وقوة سخطها تلاشت.

حظى روث على مطلق الحرية في الكتابة -كمثال على ذلك، رواية (شكوى برتنوي) الموصومة بالصراحة الجنسية، والتي نشرت عام 1969- بناءً على سلسلة من القرارات الصادرة عن المحاكم والتي بلغت أوج ذروتها عام 1966. في تلك السنة، صدرحكم المحكمة العليا 3/6 عن رواية (فاني هيل) للكاتب "جون كليلاند" بأنها عملٌ ((يبطل القيم الاجتماعية))

 وبشكل فعال قد وضع حدًا لرقابة الأعمال الأدبية والتي أعتبرت بمثابة عملًا روتينيًا في الولايات المتحدة.
جديرٌ بالذكر القضية التي شغلت الولايات المتحدة عام 1933 حول كتاب واحد يسمى "يوليسيس"، حيث حكم القاضي "جون م.وولس" أن رواية "جيمس جويس" الغير تقليدية لم تكن "فاحشة، فلقد شكلت سابقة من شأنها أدت بنهاية المطاف إلى رفع القيود المفروضة عمليًا على جميع الكتب غير التشهيرية أو المهددة للأمن الوطني، فاليوم يبدو الفحش والألفاظ النابية من الفئات الجذابة -على الأقل حينما تتجسد عبر اتصالها مع الخيال والشعر- ولم تعد خدمة بريد الولايات المتحدة تحظر الكتب وتحرقها.

عام 1923، بعد عام من نشر كل من "أوليسيس" و قصيدته التاريخية الخاصة "أرض اليباب"، أعلن "تي.أس.إليوت" أن رواية جويس هي (التعبير الأمثل وأكثر أهمية قد شهده العصر الحديث بل هو كتاب نحن جميعًا له مدينون، ولا مفر لأحد منا منه)؛ ولكن لم تحذ الرواية على موافقة الجميع، حيث أطلق "إديث وارتون" على أوليسيس أنها (التمرغ المبالغ في المواد الإباحية)، وأنكرت "فيرجينيا وولف" واعتبرت جيمس وكأنه (مراهق يثير الغثيان يخدش بثوره) وعقبت على أوليسيس بأنه (كتاب أمِي مبتذل)، كما أوضح "دي.أتش.لورانس" -والذي كان لديه مشاكله الخاصة مع الرقابة- أن الفصل النهائي من أوليسيس هو (أكثر الكتابات الغير لائقة فحشًا وأقذر ما كتب على الإطلاق).
وتعد أكثر إشكالية واجهت جويس هي أن "روايته كانت غير محبذة من قبل رجال الحكومة وأصحاب النزعة الأخلاقية وحُماها، والذين بحالهم قد صدروا وأعدموا مئات من النسخ.
اليوم، حين القراءة عما أحرزه ليويولد بلوم –بطل الرواية الخيالي- في دبلن 16 يونيو 1904، أنها لا تزال تضفي شعورًا كشعور عيد الغطاس، حيث لم تعد اليد ترتعش عند التعامل مع الفاكهة المحرمة.
بعد نجاحه في تحطيم كافة الرموز في رحاب الأدب، بوقت ما كان الأدب لا يزال يبجَّل كمؤسسة مقدسة، حل يوليوس بغير محله، وتمكن من بيع أكثر من 100 ألف نسخة في العام.
وحسب الإحصاء الحالي وفقًا لجمعية اللغات الحديثة للبيبلوغرافيا الدولية أن المقالات والكتب العلمية قد حازت على 3916 إدخالًا وبحثًا.
لذا، إضافة إلى المكتبة الشاسعة لتعقيبات التي طالت يوليسيس، أراد كيفن برمنغهام أن لا يفسر ولا يبرر مؤلفات جويس المتورطة؛ وبغض النظر عن ذلك، فقد أنتج ما أسماه "سيرة الكتاب"، وهو بمثابة حساب بين كيف كان البناء، القمع وهيمنة النص الحداثي.
"أخطر كتاب .. المعركة من أجل رواية يوليسيس لجميس جويس"جاء ليحكي قصة مثيرة حول كيف رواية يوليسيس قد كتبت، حُكمت، بُرَأت، نُشرت، وقُرأت؛ وأعد ذلك الكتاب مصدرًا أساسيًا، من خلال البحث والانخراط في السرد عن الجنس، علم الجمال، الأخلاق، والفقه، فعاصر تداعيت ما يقرب من قرن من الزمان.
برمنغهام، محاضر بجامعة هارفارد، يرى أن رواية جويس تعد أمرًا حاسمًا نسبة إلى القانون بقدر التاريخ الأدبي. مسارها من الحظر النهِر إلى كونها معلَمًا أساسيًا في الحداثة؛ أوجدت تغيرات عميقة مؤثرة في الثقافة الغربية في غضون أقل من قرن من الزمان.
في عام 1918، بدأت فصول رواية "يوليسيس" في الظهور عبر حلقات "the little review"، وهي مجلة طليعة دولية مقرها مدينة غرينتش. على الرغم من أن شعارها هو "لا للحلول الوسطية مع الذوق العام" إلا أن اضطرا محرراها الخاصان "مارغريت أندرسون وجان هيب" لتقديم تنازلات عند تهديدهما بالحبس لاشتمال الجريدة على محتويات فاحشة. كما تعرضت "هاريت شو ويفر" رئيس تحرير صحيفة  "Egoist" بلندن إلى مشاكل قانونية مماثلة؛ ولذلك لم يجرؤ أي أمريكي أو بريطاني من ناشري الكتب على تحدي الرقابة في بلدهم وتسويق أي طبعة من رواية يوليسيس.
مع ذلك، قررت سيلفيا بيتش، مالكة
Shakespeare and Company، وهي مكتبة إنجليزية أسطورية في باريس، وعلى الرغم من افتقارها إلى أي خبرة في النشر، إخراج الكتاب بنفسها؛ بتوظيف عامل طباعة في ليون لا يتحدث الإنجليزية، وأخيرًا وضعت الرواية بين غلافين متينين، واعتبرتها الرواية الأكثر ابتكارًا في اللغة الإنجليزية الحديثة. ومع ذلك كانت قراءتها وتوزيعها تحديًا، نظرًا لأن جمعية نيويورك لقمع المخالفين والموظفين البريديين قامت بتجميع وحظر النسخ التي شقت طريقها إلى الولايات المتحدة، كما كانت السلطات البريطانية متأهبة بنفس القدر في فرض حظر على كتاب جويس المزعوم.
لم يكن حتى قرار القاضي وولسي في 7 ديسمبر 1933، بعد أكثر من عقد من الإصدار الباريسي الأول، أن Random house (أكبر دار نشر للكتب في الولايات المتحدة)، كان قادرًا على نشر يوليسيس بشكل قانوني. لم يكن جون لين حتى عام 1936 قادرًا على نشر وبيع الرواية في المملكة المتحدة.
لم يكن لدى جمعية المكتبات الأمريكية، والتي تحدد الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر بأنه "أسبوع الكتب المحظورة"، أي مشكلة في العثور على عناوين لملء قوائم الكتب السنوية تحت الحظر. ومع ذلك ، فهذه الكتب العامة التي تمت إزالتها من مكتبات أو مدارس معينة لم تكن تحظى بنفس الحظر الشامل المفروض على يوليسيس، ومن تلك الكتب  
Lady Chatterley’s Lover, Tropic of Cancer, Naked Lunch, Lolita، وغيرهم من الأعمال التي أصبحت منذ ذلك الحين مواد أساسية للدراسة الأدبية. على مر العقود منذ قرار وولسي، كافح المؤلفون والناشرون والقضاة من أجل تمييز الاختلافات بين "غير لائق" و "فاضح" وتحديد معاني مثل هذه المصطلحات الفنية على أنها "إباحية" و"محرر من القيمة الاجتماعية". ومع ذلك على الرغم من أن التفسيرات الجنسية واللغة الفذَّة هما أكثر الأسباب التي يتم ذكرها في كثير من الأحيان حول الكتب التي يتم الطعن فيها الآن، إلا أنه ليس هناك الآن عائق قانوني أمام النشر أو البيع.
على النقيض من ذلك في عام 1857، تمت محاكمة تشارلز بودلير، وإجباره على دفع غرامة قدرها 300 فرنك بسبب "إهانة الآداب العامة" في مجموعته الشعرية Les Fleurs du  mal (أزهار الشر). ومع ذلك، من الصعب الآن تصور أي دولة ديمقراطية تفرض اعتراضًا على ديوان من القصائد. " لو أن غاليليو قد قال في بيت شعر أن العالم تحرك، ربما كانت محاكم التفتيش تركته وحيدًا" ، هذا ما قاله توماس هاردي، مشيرًا إلى عدم اكتراث المجتمع بفنه.
صحيح أن نشر آيات شيطانية لسلمان رشدي عام 1988 أثار ردود فعل عنيفة وحظر، وصحيح أيضًا أنه بضغط من النشطاء الهندوس الذين تلقوا الإساءات في تصورات دينهم، سحبت دار نشر
Penguin India (The Hindus التاريخ البديل 2009) للكاتب ويندي دونيغر من البيع. ولم يكن الفحش أو الإباحة شيئًا في قضية رشدي ودونيغر. على النقيض من ذلك ، لم يواجه جيمس أي مشكلة في نشر وبيع الرومانسية المثيرة للشهوة في Fifty Shades of Grey. على غرار ما لا يستهان به بسبب جويس ورعاته والناشرين والمحامين والمتعصبين، أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية لم تعدا توظِّفا رقباء أدبيين.
لم يكن أي شخص مثل فيليب روث، يلاحظ كيف أن الأدب المحيطي قد أصبح للثقافة المتعارفة انتصارًا لحرية التعبير، إذا استطردت الأمور على هذا النحو، هل يهم شيء؟
كتاب بيرمنغهام مثله مثل أعمال حديثة كـ  (Obscene in the Extreme) حرق ونفي جون شتاينبك عناقيد الغضب 2008 للكاتب ريك وارتزمن، و(The Zhivago Affair) الكرملين ووكالة المخابرات المركزية والمعركة على الكتب المحظورة 2013 لكاتبيها بيتر فين و بترا كوفييه؛ يقدم حنينًا للماضي المعاصر، عندما تكون الكتب لا تحمل عبء الكتابة والنشر فقط بل تحمل بين طياتها مخاطر الاعتقال، عندما لا تطلب رأس مال فحسب بل تطلب الشجاعة أيضًا. مثل استطلاع إدوارد دي جرازيا القضائي للرقابة الأدبية، في (Girls Lean Back Everywhere) قانون الفحش والاعتداء على العبقرية 1992، وهو مجرد وجهة نظر في وقتٍ لا يتم فيه إرسال أحد إلى السجن بسبب فظاظة القول أو لاحتواءه على ألفاظ نابية.


الأحد، 2 سبتمبر 2018

لماذا تبدو لنا الحياة دائمًا أنها تغدو أكثر تعقيدًا؟



"لو أن هناك احتمال حدوث خطأ ما، فسوف يحدث" نص قانون مورفي.
يشير هذا البيان الغامض إلى ميل الحياة المزعج نحو افتعال المشاكل وجعل من أهون الأمور أصعبها. يبدو لنا أن تلك المشاكل تُبتدع من تلقاء نفسها، في حين أن حلول تلك المشاكل تتطلب الانتباه، الطاقة ومن ثمَّ الجهد. الحياة لا تُكيِّف نفسها كي تتناسب مع أمورنا، ولكن على النقيض حياتنا تغدو أكثر تعقيدًا وقساوة، حياتنا تتدهور تدريجيًا إلى أن تُصبح مضطربة كليًا بدلًا من أن تكون بسيطة ومنُظَّمة.



لِمَ كل هذا؟
قانون مورفي، قولٌ عابرٌ يذكره الناس خلال محادثاتهم الاعتيادية، ولكن في مكنونه فإنه على صلةٍ تامة بإحدى قوى كوننا العظيمة، هذه القوة جوهرية أساسية في طريقة سير عالمنا؛ تتخلل كل مسعى نقصده تقريبًا؛ تتحكم في العديد من المشاكل التي نواجهها، وبدورها تؤدي إلى الفوضى، إنها القوة الوحيدة التي تحكم حياة الجميع، إنها الإنتروبيا.

ما هي الإنتروبيا، ولماذا هي مهمة؟
إليك طريقة بسيطة للتفكير في الأمر:
تخيل أنك تأخد علبة من قطع اللغز، ثُم أفرغتها على طاولة. نظريًا، من الممكن أن تسقط القطع تمامًا في مكانها المخصص وتكوِّن في النهاية الشكل المطلوب كليًا، ولكن في الواقع، لن يحدث هذا أبدًا.
لماذا؟
بكل بساطة، ولأن الغالبية ساحقة ضدها؛ فكل قطعة يجب أن تسقط في موضعها بعينه الصحيح لتكوين شكل اللغز المكتمل. حالةٌ واحدةٌ مستحيلة وممكنة في الآن ذاته حيث تتمركز كل قطعة بالترتيب، ولكن هناك عدد لا حصر له من الحالات التي تكوِّن القطع فيها عشوائية مبهمة لشكل اللغز -رياضيتيًا، من غير المرجح أن يكتمل اللغز بتلك العشوائية.
وبالمثل! إذا قمت ببناء قلعة رملية على الشاطئ وتركتها ثم عدت بعد بضعة أيام... لن تجدها.
ستجد فقط مزجًا من حبيبات رمال قد تشبه تلك القلعة الرملية، ولكن في الوقت ذاته هناك عدد لا حصر له من الحبيبات الرملية التي لا تشبهها بتةً.
مرة أخرى، من الناحية النظرية، من الممكن أن تقوم الرياح والأمواج بتحريك الرمال رأسًا على عقب وتكوِّن شكل القلعة الخاصة بك، ولكن من الناحية العملية هذا لن يحدث مطلقًا فالرمال ستكون متناثرة في كتلة عشوائية.
هذه الأمثلة البسيطة تصور جوهر الإنتروبيا. الإنتروبيا هي مقياس للفوضى.


https://mail.google.com/mail/u/0/images/cleardot.gif
لماذا الانتروبيا مهمة لحياتنا؟
إنه الميل الطبيعي للأشياء للتملص من الأوامر الحتمية، وبغض النظر عن ذلك ستغدو الحياة حتمًا لما هو أقل تنظيمًا. القلاع الرملية تندثر بفعل أمواج البحار، الأعشاب تطغي على الحدائق، الأطلال تتصدع ومن ثمَّ تنهار، السيارات تصدأ، والبشر يهرمون تدريجيًا بتقدم العمر.. مع الوقت الكافي؛ حتى الجبال تتآكل وتصبح حوافها مستديرة، الاتجاه الحتمي للأمور هو أن تُصبح أقل تنظيمًا.
هذا هو المعروف بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية، إنها واحدة من المفاهيم التأسيسية للكيمياء، وهي واحدة من القوانين الجوهرية لكوننا. ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أن الإنتروبيا داخل النظم المغلقة لن تنخفض أبدًا...

أعتقدَ العالم البريطاني آرثر إدينجتون أن "القانون الذي يزيد من الإنتروبيا دائمًا هو قانون الطبيعة".
فإذا أشار شخص ما إلى نظريتك عن الكون على أنها متعارضة مع معادلات ماكسويل -ووجد أنها تناقضها بمجرد الملاحظة- فـ حسنًا! محتمل أن هؤلاء التجريبيين يقومون بأشياء غير متقنة أحيانًا؛ ولكن إذا وجدت نظريتك تتعارض مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، فلا يمكنني أن أمنحك أي أمل، فلا مفر لنظريتك سوى الانهيار في أعماق قاع الإذلال.
على المدى الطويل، لا شيء يفلت من القانون الثاني للديناميكا الحرارية. فتأثير الإنتروبيا لا هوادة فيه. كل شيء يتلاشى، والفوضى في زيادة مستمرة.

دون جهد.. تميل الحياة إلى فقدان النظام
قبل أن يتخلل إليك شعور الاكتئاب، هناك أخبار جيدة...
يمكنك أن تقاتل ضد تأثير الإنتروبيا، يمكنك حل اللغز المُبعثر، يمكنك جز الأعشاب من حديقتك، يمكنك إعادة ترتيب غرفة تعمها الفوضى، يمكنك تنظيم الأفراد داخل فريق شرط أن يكون متماسك.
ولكن بسبب ميل الكون بشكل طبيعي نحو الفوضى، عليك أن تُبذل جهد لخلق الاستقرار، البنية الأساسية والبساطة. العلاقات الناجحة تتطلب الرعاية والاهتمام. الفريق الصاعد في حاجة إلى التواصل والتعاون... بدون جهد مبذول؛ الأشياء سوف تندثر ومن ثمَّ تتلاشى.
هذه النظرية -الاضطراب لديه ميل طبيعي للازدياد طوال الوقت، ولا يسعنا مواجهته سوى بتكثيف الطاقة المبذلة - تكشف عن المكنون الأساسي للحياة. يجب علينا بذل الجهد لخلق شاكليات مفيدة من النظام تتسم بالمرونة الكافية لتحمل قوة تأثير الإنتروبيا بلا هوادة.
"الغرض النهائي من الحياة، العقل والسعي البشري هو نشر الطاقة والمعلومات لمقاومة المد الإنتروبي وحيازة ملاذات نافعة" ستيفن بينكر
الحفاظ على التنظيم في مواجهة الفوضى ليس بالأمر السهل. على حد تعبير إيفون شوينارد مؤسس باتاغونيا "إن أصعب أمر في العالم هو تبسيط حياتك لأن كل شيء يجذبك لتكون أكثر تعقيدًا".
الإنتروبيا تزداد من تلقاء نفسها، الطريقة الوحيدة لجعل الأمور منظمة مرة أخرى هو كمية الطاقة المبذلة... النظام يتطلب الجهد.


الإنتروبيا في حياتنا اليوميةتساعد الإنتروبيا على شرح العديد من الخبايا المبهمة والخبرات الحياتية اليومية فمثلًا:
لماذا الحياة مميزة وفريدة
بالالتفات إلى جسم الإنسان
الذرات التي تشكل جسم الإنسان من الممكن إعادة ترتيبها بطرق مختلفة لا حصر لها، وتقريبًا كلًا منهم لا يؤدي إلى الشكل الحياتي المألوف على الإطلاق. رياضيتيًا، الاحتمالات تكون بشكل كبير ضد وجوديتك، فأنت مزيج غير مؤتلف من الذرات، ولكن في النهاية ومع كل ذلك أنت هنا... هذا حقًا فريد.
في الكون حيث الإنتروبيا تتحكم في اليوم؛ وجود الحياة مع مثل هذا التنظيم والبنية والاستقرار أمرمذهل.
لماذا الفن أمره جميل
تقدم الإنتروبيا تفسيرًا جيدًا لماذا الفن والجمال رائعين لأبعد حد، حيث يُبدع الفنانون شكلًا من أشكال النظام والتناظر التي لا يمكن للكون أن يولدها وحده وذلك من النادر جدًا في المخططات الاحتمالية العظيمة. عدد المجموعات الجمالية أقل بكثير من مجمل الاحتمالات؛ وبالمثل، من النادر والجميل رؤية وجه متناسق في مثل الوقت الذي به طرق عدة لاحتمالية كونه غير متناسق.
الجمال نادر وغير محتمل في كون تحكمه الفوضى، ولعل ذلك سبب جيد لحماية الفن، ولذلك يجب أن نحرسه ونعامله كشيء مقدس.
لماذا الزواج صعب؟
أحد أشهر الكلمات الافتتاحية في الأدب من رائعة ليو تولستوي من آنا كارنينا "العائلات السعيدة متشابهة، كل أسرة غير سعيدة غير سعيدة لشأنها الخاص".
هناك العديد من الطرق المؤدية لفشل الزواج، الضغوط المالية.. الأمور الأبوية المعقدة.. صراعات القيم الأساسية.. عدم الثقة.. والخيانة وما إلى ذلك، حيث يمكن لسببٍ واحد من تلك الأسباب أن يدمر عائلة كاملة.
كي تكون سعيدًا؛ فأنت بحاجة إلى درجة من النجاح في كل مجال رئيسي، وبالتالي، فإن جميع العائلات السعيدة متشابهة لأن جميعها لها بنية مماثلة. وعلى نفس الشاكلة نجد أن الإنتروبيا تتخلل إلى الحياة الأسرية، فبين لحظة وأخرى من الممكن أن يحدث اضطراب من خلال طرق عدة في حين أن النظام طرق تطبيقه قليلة.
لماذا تصميم الحياة المُثلى لم يُكتشف؟
لديك مجموعة من المواهب والمهارات والاهتمامات الخاصة بك، ولكنك تعيش أيضًا في محتمع كبير وثقافة أكبر لم يتم تصميهما وفق قدراتك الخاصة. بالالتفات إلى ما نعرفه عن الإنتروبيا، ما الذي يُخيل لك إذا كانت البيئة التي نشأت فيها هي البيئة المُثلى لموهبتك؟
من غير المحتمل كليًا أن تقدم لك الحياة وضعًا يتناسب تمامًا مع نقاط قوتك. من بين جميع السيناريوهات المحتملة التي قد تصادفها، من المرجح أنك ستصادف واحدًا لا ينصاع إلى موهبتك ويلبيها.
يستخدم علماء الأحياء التطورية مصطلحًا يسمى (شروط عدم التطابق) لوصف ما إذا كان الكائن الحي لا يتكيف تمامًا مع الحالة التي يواجهها. لدينا عبارات شائعة لحالات عدم التطابق تلك مثل (كالسمك خارج الماء) (كالذي أحضر سكينة لمعركة إطلاق النار). من الواضح أن عند وجودك في حالة لا تطابق ماهيتك، من الصعب أن تنجح أو بالأحرى أن تكون مفيدًا.
من المرجح أن تواجه حالات عدم التطابق في حياتك العادية، -على أقل تقدير- لن تكون الحياة مثالية، ربما لم تنشأ في الثقافة المثلى المتوافقة مع اهتماماتك، ربما تم توجيهك خطأ لموضوع لا يحفزك أو رياضة عكس ما تهواه، ربما قد ولدت في الوقت الخطأ من التاريخ. من المرجح أنك تعيش في حالة عدم تطابق كليًا.
مع العلم بذلك، يجب أن تحمل على عاتقك مسؤولية تصميم نمط حياة مثلى لك، يجب عليك تحويل حالة عدم التطابق تلك إلى حالة مطابقة لماهيتك، الحياة المُثلي يتم تصميمها لا اكتشافها.


تطبيق قانون مورفي على الكون
أخيرًا، لنعد إلى نص قانون مورفي "أي شيء بإمكانه أن يخطو نحو الاتجاه الخاطئ، سيخطو نحو الاتجاه الخاطئ".
تقدم الإنتروبيا تفسيرًا جيدًا عن سبب ظهور قانون مورفي في مختلف اتجاهات الحياة، هناك طرق أخرى يمكن أن تسير الأمور فيها بشكل خاطئ أكثر من الصحيح. صعوبات الحياة التي تواجهها لا تحدث لأن الكواكب غير محاذية أو لأن بعض القوى الكونية تتآمر ضدك، إنها مجرد الإنتروبيا. وكما ذكر أحد العلماء أن "الإنتروبيا تشبه قانون مورفي المطبق على الكون بأسره".
هذا ليس خطأ أحد، إنها المشاكل الحياتية؛ إنه ببساطة قانون الاحتمالية. هناك العديد من الدول المضطربة وعدد قليل غير ذلك. بالنظر إلى الصعوبات التي نواجهها، المحور هو ليس بتوجيه النظر إلى المشاكل الحياتية بل إلى إمكانية إيجاد حلول لها كليًا.



الخميس، 23 أغسطس 2018

إلى من يهمه الأمر... مضطرب الشخصية الحدية ليس ملومًا (فقط رفقًا.. ستعلم كل شيء.. لا يريد تعاطف.. يريد إجادة فهم)



لم نوبات الغضب الكارثية على موقفٍ هين؟ ما السبب وراء التقلبات المزاجية المستمرة؟ ماذا يجري؟ كل شيء يتسرب ويبعد حتى يختفي كليًا؟ الثوابت تتحطم، الخلفية المعرفية تنهار، العلاقات الاجتماعية تنحسر، الندم، الاعتذار، محاولات تصحيح الأخطاء مؤقتة ومن ثمَّ كل ما كان يصبح أطلالًا... كشخص يعاني لبناء مسكن آمن كي يعيش به ثم تأتي ذرة تراب بمسكنه مفاجأة تهدم تخيلاته، تُغيِّرالصورة التي رسمها في مخيلته، تجعله رغم وهنه يهدم مسكنه رأسًا على عقب، يجلس جواره، يبكي، يندم، يلوم نفسه، يعيد البناء، ثم تلك المرة يرى فراشة تطير خارج النافذة، مخيل لها أن تدخل منها ولكنها تدخل من نافذة آخرى، فيعيد هدم المنزل، يعتذر لمن يعيشون معه، يبكي، يندم، يعيد البناء، يعيد الهدم، يعيد البناء...
أهلًا بكم في رحاب حياة مضطرب الشخصية الحدية!


رغم أني ذكرت في مقال سابق أن من بيننا اليوم من يحوِّل الأمراض النفسية إلى شماعة لتعليق الأخطاء، لاجترار الأعذار، لاستدراج العواطف، لتكون مخرجًا مستساغًا مفتوحًا طوال الوقت للتملص من السلوكيات الخاطئة، إلا أن من بيننا من لا يرحم نفسه ولا يعرف ما الذي يحدث، من بيننا مضطرب الشخصية الحدية..
الحدية (الحد) أقصى الطرف أو شفير الشيء بمنطق أهل اللغة، وفي اصطلاح الشرع عقوبة مقدرة وجبت على الجاني، مضطرب الشخصية الحدية ليس جاني ولكن كُتب عليه أقصى عقوبة، فهو بين الحد الأقصى للمشاعر والحد الأقصى الآخر لنقيضها، والتنقل بين الحدين يفصلهما ساعات أو موقف لا يتجاوز اللحظات، لا يفهم ولا يعيي ماذا يجري ولما يتصرف على هذا النحو، وإن أراد في نفسه التوقف -لأنه يعلم أن الأمور تتداعى رغم أصوات داخل رأسه تمنعه وتهمس إليه أن كل شيء سينهار توقف-؛ لا يستطيع.


يجهل معنى الوسطية فهو إما هذا أو نقيضها ذاك، الألوان نسبة إليه أبيض أو أسود، لا يُسهِّل الأمور، إما الرضا التام أوالسخط الثائر، يتأرجح بين التقديس ونزع القيمة بكل مشاعره، من حليفه اليوم أحب شخص إليه يصل به عنان السماء  بعد ساعات وليس الغد فقط بموقف واحد يخسف به الأرض يصبح عدوه يكاد يكون أسوء شخص قد مر به على الإطلاق، وبموقفٍ آخر وبكلمة واحدة يعود حليفه، لا يشكل انطباع واحد عن أحد، لا يعلم من يريد به الخير ومن يتصيد له ويريد له الشر، ما هو الخير؟ كيف هو الشر؟ يعيش دون ثوابت أو أرضٍ راسخة ثابتة يستطيع أن يثبت عليها قدمه أو يستريح للحظاتٍ، يتخبط هنا وهناك مع كل موقف وبمرور كل شخص، يُحلِّق في الهواء دون موطن، وموطن الشخص هي ذاته...


مضطرب الشخصية الحدية يجهل ذاته، صورته عنها مشوهة كأنه ينظر إلى انعكاسه عبر ماء يجري أو فوق ألهبة نارية، صورة مشوهة مشوشة متأرجحة متقلبة، يجهل من هو، في حالات سيئة كمن يجلب صورة شخص آخر وأحد ما يقنعه أن هذا الشخص هو بهيئته وملامحه، لا يجيد تفسير سلوكياته، شخص بمنتهى العفوية والطاقة، ولحظاتٍ فاصلة يصبح  شخص لا حياة به على الإطلاق، كمن أعلى قمم الحيوية ثم يسقط إلى قاعٍ سودوي يريد التخلص منه ولكن شعوره حينها كطفل يتعلم السير يهرب من كلب أسود ضخم بقفزاتٍ واسعة يقيده، ذاتٌ اجتماعية ولكن بفعلٍ صغير غير ملحوظ تهجر كل شيء وتهجر الجميع تهجر نفسها...
الأسوء مطلقًا في العلاقات الاجتماعية، خوفٌ مستمر من أن يروا الحقيقة، حقيقة الظلام الذي يستشعر الحرج منه، لشعوره الدائم بأنه ثُقل وحمل، لشعوره بأن تكوينه نوبات غضبية  صعبة المراس؛ يُبعد من يهتمون لأمره، يريدهم بمقربة منه ولكنه يتمنى أن يتركوه وشأنه، يغضب إذا بعدوا، ويُثار إذا اقتربوا لفعلهم لشيء عكس إرادته، يريد ولا يعرف ما يريحه، لا يريد ويجهل ما المناسب لحالته، إذا جاوروه وبدأ يشعر أنه محبوب وشخص طبيعي للحظات وأن نوبات اضطرابه هي محض خيال، بتعليق صغير مؤذي يتدفق الغضب مع الدم في سائر الجسد ويعيد من جديد...
وإن كان هذا كله يفتك به، فكالمخدرات، حالة مؤقتة تساعده حينها وتؤذيه مراتٍ بعدها، مضطرب الشخصية الحدية تتواجد لديه أعراض انفصامية شديدة، لوقتٍ قصير يجهل الواقع، ما الذي حدث؟ أنا لا أغضب، عقلٌ فارغ تمامًا كهدنة من نفسه، ينقطع عن نفسه، يراقب نفسه من الخارج، ويفقد الاتصال مع الواقع...
نمط الحياة المتقلب هذا يقيده بسلاسة إلى التهور والسلوكيات المندفعة غير المنضبطة دون تفسير أو وعي، لحظة بلحظتها وموقف بموقفه، إذا تم الضغط عليه وجاءته نوبة غضبية واحدة تلو الأخرى دون هدنة قصيرة أو تنفيذ مطالبه يكون الإعصار الذي يطيح بكل شيء علاقات.. أشخاص.. عمل، يصبح سلاحًا فتَّاكًا يصوَّب تجاه الجميع ثم يصوبه نحوه، إذا وصل لأشد نوباته دون فهمٍ أو تفهم، يصبح الكل أعداءه، يصبح هو عدوًا لنفسه، محارب مغمى العينين في ساحة قتال قُتل فيها أعز من يملك، لا يشعر بأمان، يزداد الظلام، يبدأ بالانهيار، يشعر أنه مذنب في حق الجميع، يؤنب نفسه، تنهار الثوابت، تتصدع الذاكرة، يكون هو عدو نفسه ويبدأ بالتدمير، يخبر نفسه أنه يستحق العقاب، يلحق الضرر بجسده، خبطات متكررة أشياء حادة مدببة، يجرح أماكن متفرقة في جسده، ويداوم على ذلك ونفسه تحسه وتوسوس إليه كشيطان بأنه يستحق ذلك، أو تأتي متخفية على هيئة ملاك وتهمس أن الألم الجسدي سيلهيه عن ألمه النفسي، يصل إلى مفترق طرق يريد شخصًا يفهمه وينتشله مما هو فيه، يستند إلى ذلك، يشعر ببصيص من الأمل، ولكن إذا خاب ظنه لن يجد طريق سوى الانتحار...

مضطرب الشخصية الحدية مرن يحاول ويحاول ثم يحاول من جديد، إن كنت شخص عزيز، أو كان هو شخص عزيز مضطرب الشخصية الحدية لا يريد سوى التفهم ومشاعر صادقة وشخص فقط من فولاذ كي يتحمل نوبات الغضب المتكررة، يريد التشجيع والتماس الأعذار، أبدًا لا تقل له "أنت تجهل ما تريد" لأنه يعلم ذلك فقط تعرِّيه أمامك، تكشف عن سره، تزيد عليه الضغط هو كالتائه الذي لا يصل، وأبدًا لا ترى لحظات انهياره وإقدامه على الانتحار شيء من الجبن -هو محارب أن تجهل ما يخوض به-، هو فقط يريد شخص يستمع دون أن يتكلم في نهاية حديثه سينسى لم كان عصبيًا منذ وهلة ويشعر بالضجر ويتغيِّر بعدها، وإن قال لك أتركني وحدي فقط أتركه ولكن اهتمَّ به على نحو بسيط، عطَّل حياتك لبرهة حينها وكن متواجد ولكن وجود بسيط...



هذا المقال لمضطربي الشخصية الحدية، أقول لهم، أنتم كثيرون متخفيون فقط خلف ابتسامات ومرونة التعامل المؤقتة، رفقًا بأنفسكم لستوا مذنبين جراء علاقات اجتماعية تضعون نهاياتٍ لها، لا تتحملوا إثم نوباتكم العصبية، فقط لم تجدوا من يفهمكم ويجيد التعامل والقول ولا يزايد...

هذا المقال لمن يهمه الأمر، لمن يريد أن يفهم...



الجمعة، 10 أغسطس 2018

Eighth graders don’t cry ما بين حُسن الإنسانية وقُبح المرض




هل الموت مؤلم؟ سؤال عابر تطرحه بطلة الفيلم!



 أن تبكي بين ثانيةٍ وأخرى، أن تجلس أمام شاشة منيرة وتفقد السبل لكفكفة الدموع التي تنهال من أعينك، أن يسيطر عمل درامي على كل منافذ مشاعرك وأن يتخلل إلى الأعماق في مدة وجيزة، ومن ثمَّ تُعيد من خلاله نظرتك إلى الواقع، أو تُقرر لخبرة تركها بالذاكرة، أو بمشاعر غرسها بهدوء وحرفية تامة أن تُبدِّل طريقة تعاملك مع الواقع، هو أن تشاهد الفيلم الهولندي
Achtste Groepers Huilen Niet (English: Eighth Graders Don't Cry) أو كما يُعرف أيضا ب (Cool Kids Don't Cry)
فيلم دراما عائلي مقتبس من رائعة روائية للكاتب (Jacques Vriens) وهو من أشهر الكتاب الهولنديين المختصين بأدب الطفل، وإن تطرقنا بعيدًا عن المحور وتحدثنا عن ماهية أدب الطفل، بأنه ظهر حديثًا بعد الحرب العالمية الثانية؛ لينتشر أكثر مع إعلان حقوق الطفل عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأنه يتكون من أعمال شفهية، مكتوبة، مرئية ورقمية لديها القدرة على تنمية النواحي الذهنية والعاطفية لدى الأطفال"؛ يعرِّف (هادي نعمان الهيتي) أدب الأطفال في كتابه (أدب الأطفال، فلسفته، فنونه، وسائطه) بقوله: "أدب الطفل هو الآثار الفنية التي تصور أفكارًا وإحساسات وأخيلة تتفق مع مدارك الأطفال وتتخذ أشكال: القصة، الشعر، المسرحية، المقالة والأغنية"، فإن عدنا للحديث عن كاتبنا من خلال رؤية المُشاهد للفيلم فإنه قد حقق المفهوم عينه؛ حيث ألتزم في رائعته بتجسيد الضوابط النفسية، الاجتماعية، التربوية، المهنية.




المجتمع المدرسي منظومة كاملة متكاملة مغلقة على نفسها، مجتمع شامل لابد أن يؤخذ على محمل الجد، الضغوط والتعاملات الإنسانية وعلاقات الصداقة، كل ذلك يُبنى ليكتمل ويستمر من هذه المراحل حتى يكوِّن من نحن عليه الآن، مجتمع واعي بكل ما هو حوله تمامًا، الكلمة الواحدة تؤثر، الصداقة الحقيقية تُعالِج، نصائح المعلم ورقي فكره يفيد.
أكي طالبة بالصف الثامن -على غير العادة- تهوى كرة القدم وتبرع فيها، تجد من زملاءها المشجعين والمرحبين المتحمسين لها ولموهبتها، وكالعادة في جميع الأعمال الدرامية، من يكون متميزًا دون غيره، الحاصل على الإنتباه المُلفِت للجميع، النشط العفوي صاحب الإيجابية، الفريد من نوعِه، يقع عليه العبء الدرامي المأسوي، أو فقط يكون خير تجسيدٍ لحقيقة الدنيا، بعد دقائق من بداية الفيلم تُشخَّص على أنها مريضة لوكيميا، يتم حجزها بمستشفى، بجانب من عفويتها تصمم على التحسُّن ومقاومة المرض بشيء من شغف حبها لكرة القدم، ويلتف حولها والديها أصدقاؤها والطبيب المعالج مع عدم اليقين بشفائها ولكن بجانب كبير من الحنو والإنسانية.


الإنسانية هي غذاء العلاقات الاجتماعية وقوة صمودها، الإنسانية رتبة يصل إليها البعض، المعلمة التي حظيت بها أكي في فصلها الدراسي أقرب لوصفها أنه عندما تتجسد الإنسانية ولباقة الفكر والتصرف في هيئة شخص، أحيت القيم التربوية والتعليمية في كل مشهد ظهور لها في الفيلم، أجادت إحاطة المشدات الطلابية الاعتيادية، سهلَّت الأمور، وعند علمها بمرض أكي كانت أول من له بادرة إنسانية عاطفية راقية، حثَّت جميع أصدقاء أكي برسم ذكرى تجمعهم مع أكي ممزوجة بعبارات تفاؤلية متمنيين لها السلام.
الأصدقاء هم من يجيدون فهم الصمت، وإن تحدَّثوا أجادوا الحديث، والصداقة من الصدق، وما هو صادق فهو صحيح ومستمر، خير مثال للأصدقاء بكل تصرفٍ هو ما همَّ بفعله أصدقاء أكي، خلال كل مشهد بتفضيل معنى الصداقة والحفاظ على مشاعر الآخر، وإلمام المواقف المحرجة بقولٍ طريف بديهي سريع حفاظًا على المشاعر، ألا يبخلوا بوقتٍ أو جهد لخدمة أكي أو فعل ما يدخل السرور إلى قلبها دون أي نظراتٍ مشفقة، فقط يفعلون بدافع الصداقة والحب المخلص.

وبعودةٍ إلى معلمتهم وتطبيقها المهنية المحترفة، أجادت نقل حالة أكي الصحية إلى طلابها وتوعيتهم كي يكونوا متفهمين –إنهم مجرد طلاب بالصف الثامن-، دون ذلك فقد ذهبت إلى المستشفى لتعليم أكي ما ينقصها من الدروس التي تغيبت عنها، بجانب من الإنسانية والإخلاص التي نتمناها أن تكون في كل من يمتهن تلك المهنة، تناقش معها شغفها بكرة القدم، وتهدء من قلقها حول عدم المشاركة في نهائي مسابقة كرة القدم.



"لا محبة دون عداوة"، من كان يثير غضبها وإحباطها، بنهاية الفيلم وبمدخلٍ من الحب، سيكون أكثر متفهمٍ لحالتها الصحية، ويساعدها بنهاية المطاف، ويحافظ على كبرياؤها رغم وهن المرض الذي فتك بنشاطها وعفويتها.
روح عامة تعم المستشفى بالتفاؤل والتعاطف والتفهم الجيد ليس فقط للحالة المرضية ولكن الحالة النفسية، والمساهمة بكل ما بهم من جهد ومشاعر ووقت.

الفيلم وإن سلَّط الضوء على مرض اللوكيميا الذي قد يصيب أطفال ولم يصبح مكتفي فقط بالكبار سنًا، إلا أنه يحمل بين طياته حالة المجتمع الذي يجب أن يكون شبيهًا بالمجتمعات الصالحة بشتى جوانبه، يعلمنا الرُقي...
وبالطبع حصل على جوائز عدة منها
جائزة الفيلم الذهبي، جائزة Golden Calf Audience Award في مهرجان الفيلم الهولندي ، جائزة Rembrandt لأفضل فيلم للشباب الهولندي ، جائزة Rembrandt لأفضل ممثلة هولندية رشحت إليها حنا أببيك، جائزة Rembrandt لأفضل أغنية فيلم رشحت إليها كيم ليان فان دير ميج، جائزة الجمهور لأفضل فيلم روائي طويل في أطفال، وأفضل فيلم للأطفال في مهرجان الصين الدولي لأفلام الأطفال.

الموت لا يعرِّف سنًا، وقد يتخلل المرض في حياة شخصٍ بين لحظة وتابعتها، فقط كن إنسانًا بما فيه الكفاية.

علاقاتٌ تاريخية ومصيرٌ واحد.

أشرقت شمس السماء وأشرقت معها حضارتان أضاءت الأرض بنورِهما وعرَّفت البشرية أن مِن عراقة الشعوب وتراثها؛ تتحق الإنجازات، وأنه بالس...