الخميس، 23 أغسطس 2018

إلى من يهمه الأمر... مضطرب الشخصية الحدية ليس ملومًا (فقط رفقًا.. ستعلم كل شيء.. لا يريد تعاطف.. يريد إجادة فهم)



لم نوبات الغضب الكارثية على موقفٍ هين؟ ما السبب وراء التقلبات المزاجية المستمرة؟ ماذا يجري؟ كل شيء يتسرب ويبعد حتى يختفي كليًا؟ الثوابت تتحطم، الخلفية المعرفية تنهار، العلاقات الاجتماعية تنحسر، الندم، الاعتذار، محاولات تصحيح الأخطاء مؤقتة ومن ثمَّ كل ما كان يصبح أطلالًا... كشخص يعاني لبناء مسكن آمن كي يعيش به ثم تأتي ذرة تراب بمسكنه مفاجأة تهدم تخيلاته، تُغيِّرالصورة التي رسمها في مخيلته، تجعله رغم وهنه يهدم مسكنه رأسًا على عقب، يجلس جواره، يبكي، يندم، يلوم نفسه، يعيد البناء، ثم تلك المرة يرى فراشة تطير خارج النافذة، مخيل لها أن تدخل منها ولكنها تدخل من نافذة آخرى، فيعيد هدم المنزل، يعتذر لمن يعيشون معه، يبكي، يندم، يعيد البناء، يعيد الهدم، يعيد البناء...
أهلًا بكم في رحاب حياة مضطرب الشخصية الحدية!


رغم أني ذكرت في مقال سابق أن من بيننا اليوم من يحوِّل الأمراض النفسية إلى شماعة لتعليق الأخطاء، لاجترار الأعذار، لاستدراج العواطف، لتكون مخرجًا مستساغًا مفتوحًا طوال الوقت للتملص من السلوكيات الخاطئة، إلا أن من بيننا من لا يرحم نفسه ولا يعرف ما الذي يحدث، من بيننا مضطرب الشخصية الحدية..
الحدية (الحد) أقصى الطرف أو شفير الشيء بمنطق أهل اللغة، وفي اصطلاح الشرع عقوبة مقدرة وجبت على الجاني، مضطرب الشخصية الحدية ليس جاني ولكن كُتب عليه أقصى عقوبة، فهو بين الحد الأقصى للمشاعر والحد الأقصى الآخر لنقيضها، والتنقل بين الحدين يفصلهما ساعات أو موقف لا يتجاوز اللحظات، لا يفهم ولا يعيي ماذا يجري ولما يتصرف على هذا النحو، وإن أراد في نفسه التوقف -لأنه يعلم أن الأمور تتداعى رغم أصوات داخل رأسه تمنعه وتهمس إليه أن كل شيء سينهار توقف-؛ لا يستطيع.


يجهل معنى الوسطية فهو إما هذا أو نقيضها ذاك، الألوان نسبة إليه أبيض أو أسود، لا يُسهِّل الأمور، إما الرضا التام أوالسخط الثائر، يتأرجح بين التقديس ونزع القيمة بكل مشاعره، من حليفه اليوم أحب شخص إليه يصل به عنان السماء  بعد ساعات وليس الغد فقط بموقف واحد يخسف به الأرض يصبح عدوه يكاد يكون أسوء شخص قد مر به على الإطلاق، وبموقفٍ آخر وبكلمة واحدة يعود حليفه، لا يشكل انطباع واحد عن أحد، لا يعلم من يريد به الخير ومن يتصيد له ويريد له الشر، ما هو الخير؟ كيف هو الشر؟ يعيش دون ثوابت أو أرضٍ راسخة ثابتة يستطيع أن يثبت عليها قدمه أو يستريح للحظاتٍ، يتخبط هنا وهناك مع كل موقف وبمرور كل شخص، يُحلِّق في الهواء دون موطن، وموطن الشخص هي ذاته...


مضطرب الشخصية الحدية يجهل ذاته، صورته عنها مشوهة كأنه ينظر إلى انعكاسه عبر ماء يجري أو فوق ألهبة نارية، صورة مشوهة مشوشة متأرجحة متقلبة، يجهل من هو، في حالات سيئة كمن يجلب صورة شخص آخر وأحد ما يقنعه أن هذا الشخص هو بهيئته وملامحه، لا يجيد تفسير سلوكياته، شخص بمنتهى العفوية والطاقة، ولحظاتٍ فاصلة يصبح  شخص لا حياة به على الإطلاق، كمن أعلى قمم الحيوية ثم يسقط إلى قاعٍ سودوي يريد التخلص منه ولكن شعوره حينها كطفل يتعلم السير يهرب من كلب أسود ضخم بقفزاتٍ واسعة يقيده، ذاتٌ اجتماعية ولكن بفعلٍ صغير غير ملحوظ تهجر كل شيء وتهجر الجميع تهجر نفسها...
الأسوء مطلقًا في العلاقات الاجتماعية، خوفٌ مستمر من أن يروا الحقيقة، حقيقة الظلام الذي يستشعر الحرج منه، لشعوره الدائم بأنه ثُقل وحمل، لشعوره بأن تكوينه نوبات غضبية  صعبة المراس؛ يُبعد من يهتمون لأمره، يريدهم بمقربة منه ولكنه يتمنى أن يتركوه وشأنه، يغضب إذا بعدوا، ويُثار إذا اقتربوا لفعلهم لشيء عكس إرادته، يريد ولا يعرف ما يريحه، لا يريد ويجهل ما المناسب لحالته، إذا جاوروه وبدأ يشعر أنه محبوب وشخص طبيعي للحظات وأن نوبات اضطرابه هي محض خيال، بتعليق صغير مؤذي يتدفق الغضب مع الدم في سائر الجسد ويعيد من جديد...
وإن كان هذا كله يفتك به، فكالمخدرات، حالة مؤقتة تساعده حينها وتؤذيه مراتٍ بعدها، مضطرب الشخصية الحدية تتواجد لديه أعراض انفصامية شديدة، لوقتٍ قصير يجهل الواقع، ما الذي حدث؟ أنا لا أغضب، عقلٌ فارغ تمامًا كهدنة من نفسه، ينقطع عن نفسه، يراقب نفسه من الخارج، ويفقد الاتصال مع الواقع...
نمط الحياة المتقلب هذا يقيده بسلاسة إلى التهور والسلوكيات المندفعة غير المنضبطة دون تفسير أو وعي، لحظة بلحظتها وموقف بموقفه، إذا تم الضغط عليه وجاءته نوبة غضبية واحدة تلو الأخرى دون هدنة قصيرة أو تنفيذ مطالبه يكون الإعصار الذي يطيح بكل شيء علاقات.. أشخاص.. عمل، يصبح سلاحًا فتَّاكًا يصوَّب تجاه الجميع ثم يصوبه نحوه، إذا وصل لأشد نوباته دون فهمٍ أو تفهم، يصبح الكل أعداءه، يصبح هو عدوًا لنفسه، محارب مغمى العينين في ساحة قتال قُتل فيها أعز من يملك، لا يشعر بأمان، يزداد الظلام، يبدأ بالانهيار، يشعر أنه مذنب في حق الجميع، يؤنب نفسه، تنهار الثوابت، تتصدع الذاكرة، يكون هو عدو نفسه ويبدأ بالتدمير، يخبر نفسه أنه يستحق العقاب، يلحق الضرر بجسده، خبطات متكررة أشياء حادة مدببة، يجرح أماكن متفرقة في جسده، ويداوم على ذلك ونفسه تحسه وتوسوس إليه كشيطان بأنه يستحق ذلك، أو تأتي متخفية على هيئة ملاك وتهمس أن الألم الجسدي سيلهيه عن ألمه النفسي، يصل إلى مفترق طرق يريد شخصًا يفهمه وينتشله مما هو فيه، يستند إلى ذلك، يشعر ببصيص من الأمل، ولكن إذا خاب ظنه لن يجد طريق سوى الانتحار...

مضطرب الشخصية الحدية مرن يحاول ويحاول ثم يحاول من جديد، إن كنت شخص عزيز، أو كان هو شخص عزيز مضطرب الشخصية الحدية لا يريد سوى التفهم ومشاعر صادقة وشخص فقط من فولاذ كي يتحمل نوبات الغضب المتكررة، يريد التشجيع والتماس الأعذار، أبدًا لا تقل له "أنت تجهل ما تريد" لأنه يعلم ذلك فقط تعرِّيه أمامك، تكشف عن سره، تزيد عليه الضغط هو كالتائه الذي لا يصل، وأبدًا لا ترى لحظات انهياره وإقدامه على الانتحار شيء من الجبن -هو محارب أن تجهل ما يخوض به-، هو فقط يريد شخص يستمع دون أن يتكلم في نهاية حديثه سينسى لم كان عصبيًا منذ وهلة ويشعر بالضجر ويتغيِّر بعدها، وإن قال لك أتركني وحدي فقط أتركه ولكن اهتمَّ به على نحو بسيط، عطَّل حياتك لبرهة حينها وكن متواجد ولكن وجود بسيط...



هذا المقال لمضطربي الشخصية الحدية، أقول لهم، أنتم كثيرون متخفيون فقط خلف ابتسامات ومرونة التعامل المؤقتة، رفقًا بأنفسكم لستوا مذنبين جراء علاقات اجتماعية تضعون نهاياتٍ لها، لا تتحملوا إثم نوباتكم العصبية، فقط لم تجدوا من يفهمكم ويجيد التعامل والقول ولا يزايد...

هذا المقال لمن يهمه الأمر، لمن يريد أن يفهم...



الجمعة، 10 أغسطس 2018

Eighth graders don’t cry ما بين حُسن الإنسانية وقُبح المرض




هل الموت مؤلم؟ سؤال عابر تطرحه بطلة الفيلم!



 أن تبكي بين ثانيةٍ وأخرى، أن تجلس أمام شاشة منيرة وتفقد السبل لكفكفة الدموع التي تنهال من أعينك، أن يسيطر عمل درامي على كل منافذ مشاعرك وأن يتخلل إلى الأعماق في مدة وجيزة، ومن ثمَّ تُعيد من خلاله نظرتك إلى الواقع، أو تُقرر لخبرة تركها بالذاكرة، أو بمشاعر غرسها بهدوء وحرفية تامة أن تُبدِّل طريقة تعاملك مع الواقع، هو أن تشاهد الفيلم الهولندي
Achtste Groepers Huilen Niet (English: Eighth Graders Don't Cry) أو كما يُعرف أيضا ب (Cool Kids Don't Cry)
فيلم دراما عائلي مقتبس من رائعة روائية للكاتب (Jacques Vriens) وهو من أشهر الكتاب الهولنديين المختصين بأدب الطفل، وإن تطرقنا بعيدًا عن المحور وتحدثنا عن ماهية أدب الطفل، بأنه ظهر حديثًا بعد الحرب العالمية الثانية؛ لينتشر أكثر مع إعلان حقوق الطفل عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأنه يتكون من أعمال شفهية، مكتوبة، مرئية ورقمية لديها القدرة على تنمية النواحي الذهنية والعاطفية لدى الأطفال"؛ يعرِّف (هادي نعمان الهيتي) أدب الأطفال في كتابه (أدب الأطفال، فلسفته، فنونه، وسائطه) بقوله: "أدب الطفل هو الآثار الفنية التي تصور أفكارًا وإحساسات وأخيلة تتفق مع مدارك الأطفال وتتخذ أشكال: القصة، الشعر، المسرحية، المقالة والأغنية"، فإن عدنا للحديث عن كاتبنا من خلال رؤية المُشاهد للفيلم فإنه قد حقق المفهوم عينه؛ حيث ألتزم في رائعته بتجسيد الضوابط النفسية، الاجتماعية، التربوية، المهنية.




المجتمع المدرسي منظومة كاملة متكاملة مغلقة على نفسها، مجتمع شامل لابد أن يؤخذ على محمل الجد، الضغوط والتعاملات الإنسانية وعلاقات الصداقة، كل ذلك يُبنى ليكتمل ويستمر من هذه المراحل حتى يكوِّن من نحن عليه الآن، مجتمع واعي بكل ما هو حوله تمامًا، الكلمة الواحدة تؤثر، الصداقة الحقيقية تُعالِج، نصائح المعلم ورقي فكره يفيد.
أكي طالبة بالصف الثامن -على غير العادة- تهوى كرة القدم وتبرع فيها، تجد من زملاءها المشجعين والمرحبين المتحمسين لها ولموهبتها، وكالعادة في جميع الأعمال الدرامية، من يكون متميزًا دون غيره، الحاصل على الإنتباه المُلفِت للجميع، النشط العفوي صاحب الإيجابية، الفريد من نوعِه، يقع عليه العبء الدرامي المأسوي، أو فقط يكون خير تجسيدٍ لحقيقة الدنيا، بعد دقائق من بداية الفيلم تُشخَّص على أنها مريضة لوكيميا، يتم حجزها بمستشفى، بجانب من عفويتها تصمم على التحسُّن ومقاومة المرض بشيء من شغف حبها لكرة القدم، ويلتف حولها والديها أصدقاؤها والطبيب المعالج مع عدم اليقين بشفائها ولكن بجانب كبير من الحنو والإنسانية.


الإنسانية هي غذاء العلاقات الاجتماعية وقوة صمودها، الإنسانية رتبة يصل إليها البعض، المعلمة التي حظيت بها أكي في فصلها الدراسي أقرب لوصفها أنه عندما تتجسد الإنسانية ولباقة الفكر والتصرف في هيئة شخص، أحيت القيم التربوية والتعليمية في كل مشهد ظهور لها في الفيلم، أجادت إحاطة المشدات الطلابية الاعتيادية، سهلَّت الأمور، وعند علمها بمرض أكي كانت أول من له بادرة إنسانية عاطفية راقية، حثَّت جميع أصدقاء أكي برسم ذكرى تجمعهم مع أكي ممزوجة بعبارات تفاؤلية متمنيين لها السلام.
الأصدقاء هم من يجيدون فهم الصمت، وإن تحدَّثوا أجادوا الحديث، والصداقة من الصدق، وما هو صادق فهو صحيح ومستمر، خير مثال للأصدقاء بكل تصرفٍ هو ما همَّ بفعله أصدقاء أكي، خلال كل مشهد بتفضيل معنى الصداقة والحفاظ على مشاعر الآخر، وإلمام المواقف المحرجة بقولٍ طريف بديهي سريع حفاظًا على المشاعر، ألا يبخلوا بوقتٍ أو جهد لخدمة أكي أو فعل ما يدخل السرور إلى قلبها دون أي نظراتٍ مشفقة، فقط يفعلون بدافع الصداقة والحب المخلص.

وبعودةٍ إلى معلمتهم وتطبيقها المهنية المحترفة، أجادت نقل حالة أكي الصحية إلى طلابها وتوعيتهم كي يكونوا متفهمين –إنهم مجرد طلاب بالصف الثامن-، دون ذلك فقد ذهبت إلى المستشفى لتعليم أكي ما ينقصها من الدروس التي تغيبت عنها، بجانب من الإنسانية والإخلاص التي نتمناها أن تكون في كل من يمتهن تلك المهنة، تناقش معها شغفها بكرة القدم، وتهدء من قلقها حول عدم المشاركة في نهائي مسابقة كرة القدم.



"لا محبة دون عداوة"، من كان يثير غضبها وإحباطها، بنهاية الفيلم وبمدخلٍ من الحب، سيكون أكثر متفهمٍ لحالتها الصحية، ويساعدها بنهاية المطاف، ويحافظ على كبرياؤها رغم وهن المرض الذي فتك بنشاطها وعفويتها.
روح عامة تعم المستشفى بالتفاؤل والتعاطف والتفهم الجيد ليس فقط للحالة المرضية ولكن الحالة النفسية، والمساهمة بكل ما بهم من جهد ومشاعر ووقت.

الفيلم وإن سلَّط الضوء على مرض اللوكيميا الذي قد يصيب أطفال ولم يصبح مكتفي فقط بالكبار سنًا، إلا أنه يحمل بين طياته حالة المجتمع الذي يجب أن يكون شبيهًا بالمجتمعات الصالحة بشتى جوانبه، يعلمنا الرُقي...
وبالطبع حصل على جوائز عدة منها
جائزة الفيلم الذهبي، جائزة Golden Calf Audience Award في مهرجان الفيلم الهولندي ، جائزة Rembrandt لأفضل فيلم للشباب الهولندي ، جائزة Rembrandt لأفضل ممثلة هولندية رشحت إليها حنا أببيك، جائزة Rembrandt لأفضل أغنية فيلم رشحت إليها كيم ليان فان دير ميج، جائزة الجمهور لأفضل فيلم روائي طويل في أطفال، وأفضل فيلم للأطفال في مهرجان الصين الدولي لأفلام الأطفال.

الموت لا يعرِّف سنًا، وقد يتخلل المرض في حياة شخصٍ بين لحظة وتابعتها، فقط كن إنسانًا بما فيه الكفاية.

علاقاتٌ تاريخية ومصيرٌ واحد.

أشرقت شمس السماء وأشرقت معها حضارتان أضاءت الأرض بنورِهما وعرَّفت البشرية أن مِن عراقة الشعوب وتراثها؛ تتحق الإنجازات، وأنه بالس...