السبت، 13 مايو 2017

جوستاف فلوبير ---- كاتب الكُتًاب بامتياز ---- الكتابة عنه هي التحدي الحقيقي


((منشد الكمال المضطرب قاد حياة ليست زاخرة بالأحداث، ولكن كرجل من ذلك الحين فهو ساحر)). هذا ما عقب به المؤرخ الفرنسي "ميشيل وينوك" عن جوستاف فلوبير صاحب رواية "مدام بوفاري" الشهيرة. فليست هذه المرة الأولى التي تقدم فيها سيرة حياة جوستاف فلوبير. ولكن كل عمل لميشيل وينوك بمثابة حدث مهم. وكل عمل موضوعه جوستاف فلوبير، يثير بالضرورة، اهتمام القرّاء الفرنسيين.يرى ميشيل وينوك أن واحدة من المفاتن وأوجه القصور بذات الوقت التي تضفيها كتابة سيرة ذاتية هي جعل كل موقف هين يبدو بصورة تثير الحماسة. 
جوستاف فلوبير (80-1821) مؤلف رائعة "مدام بوفاري" و"التربية العاطفية"، ولد في مدينة روان لأب طبيب جراح، التحق بالمدرسة متأخراحيث تجاوز عمره العاشرة، وكان ذلك بسبب خجله الذي لازمه، ولكن على غرار ذلك أثرَت خادمة الأسرة شغف جوستاف وأشبعت خياله بإعتيادها أن تقص عليه حكايات وقصص. 

طرح فلوبير رأيه عن الرجال بوقت مبكر، وهو لا يزال تلميذا قائلا: "الرجل ليس سوى تخثر طين مع قاذورات... مزودا بغرائز حيوانية أدنى من تلك التي بخنزير أو بقملة" كما غلب عليه طبع  (النفور والاشمئزاز المبكر من البشرية). 

"أرى الماضي حطاماً والمستقبل براعم لم تتفتح بعد، بينهما أعيش، كل شيء مشوش، غامض؛ فلا القديم مات كلياً ولا الجديد ولد فعلاً "
ونستطيع القول أن هذا من جراء تأثير أسرته البرجوازية عليه وأنه كان ابنا لطبيب جراح فرنسي شهير، حيث عانى في سنوات شبابه الأولى، من أزمة عصبية قويّة، بسبب التناقضات ومختلف أشكال الضغط التي مارستها عليه أسرته؛ أو بمنطلق آخر يبلغ بنا السبب إلى أنها مجرد الروح العصرية.
"انتهت مغامرة نابليون؛ وغربت شمس الرومانسية"
على خلاف الكتاب الرومانسيين الذين يعتمدون على الخيال والعواطف المتقدة في التعبير الأدبي، تميز جوستاف فلوبير بقدرته على الملاحظة الدقيقة، والاستعانة بالعقل والرؤية الموضوعية بدلا من نظرتها الذاتية التي يتصف بها الكتاب الرومانتيكيون عادة.

ذكرنا وينوك اقتباسا من كتابه "اعتراف طفل من هذا القرن" -وهو بمثابة سيرة ذاتية له-قائلا: (الشباب رأوا الأمواج ذات الزبد تنحسر بعيدا عنهم، وأولئك المصارعون المغطون بالزيت قد شعروا ببؤس لا يطاق).
التحاق جوستاف بمدرسة "ليسيه" الكئيبة في مدينة "روان" لم يكن عونا له على الإطلاق: " فالحياة في مدرسة داخلية قاسية، المباني بدائية تفتقر الدفء، والاهتمام بالصحة العامة تعد أكثر من المعتاد والمستوى المطلوب؛ الانضباط كان صارما"و "الانتفاضات الطلابية ليست بالأمر غير المعتاد".

"اشعر بسيل من أمواج الكراهية مقابل غباء المحيطين تخنقني. كصعود القاذورات إلي فمي، كحال مريض الفتق المختنق المحتقن" strangulated hernia .
التمرغ في الأوهام الضائعة اعتيادي لذلك الوقت، كالمصطلحات العلمية والبذاءات التي اعتاد فلوبير استخدامها طوال حياته وظهر أثرها بكتاباته.

السياسة تتركه باردا، أو بالأحرى، حانقا من شدة الغضب غير مبالية.
فكرة  الوطن"la patrie"، –هو أن، تعيش على بقعة من الأرض ملونة باللون الأحمر أو الأزرق على الخريطة، وأن تبغض البقاع الأخرى ذات اللون الأخضر أو الأسود- يبدو لي عادة ضيق، مقيد، غبي بإجحاف.

عام 1830
كعدد لا يحصى من المراهقين البرجوازيين، قرر فلوبير أن يصنع الأفضل من كل سيء عن طريق أن يصبح كاتبا: "دعونا نثمل
بالحبر، لأننا نفتقر إلى رحيق الآلهة". "ما يثير الدهشة هنا" قول وينوك "ليس بالسلوك إنما بقوة صموده."

" قاموس الأفكار النمطية"
 آخر أعمال فلوبير غير مكتمل، أو ربما غير قابل للاكتمال، وهو " قاموس الأفكار النمطية" "Dictionnaire des idées reçues". كي يحكم بما هو واقع، لكان قد اتخذ شكل محادثة نمطية لحمقى:
الإنجليز "جميعهم أغنياء"، الانتصاب "يقال فقط إشارة للآثار"، فرنسا "يجب أن تحكم بيد من حديد".
تمثل أمل فلوبير تجاه قُرّاء كتاب -"موسوعة الغباء البشري"- ألا يجرؤوا على ذكر أي شيء ثانيا في حالة التلفظ عن غير قصد بواحدة من الجمل الواردة في الكتاب. وأضاف أنه ربما كان من المفترض أن يُعنون فرعيا ب "العالم، أغلق فمك".

"لأي شأن كتابة سيرة ذاتية أخرى لفلوبير؟" استهل وينوك بذلك كجملة افتتاحية لكتابه.
بل "لم كتابة سيرة ذاتية لفلوبير في المطلق؟"، فلقد قضى حياته تقريبا ببيت صيفي فوق"نهر السين"، يكتب امتعاضا من غباء الجنس البشري-وهذا يعني، سلة مهملات تمتلئ بالورق، واستخلاص جملة واحدة عرضية من بين ما كتبه- لمدة 14 ساعة في اليوم.


عندما ينظر إلى أعلى، يرى سواري لسفن غير مرئية تعبر بالنهر، ويذكر أنه خلال إحدى المرات قد رأى "مسلة الأقصر" عبر طريقها إلى باريس. وهذا هو حال تسعة أعشار صباحيات فلوبير، فرنسي رائع قوي البنيان، مع شارب كثٍ غزير، أنف قوية، حواجب كثيفة تؤوي عيون زرقاء تشبه أعين الطير البحري؛ يغمس قلمه في محبرة على شكل ضفدع، ويكتب.
من حسن الحظ لكاتبي سيرته الذاتية، أنه قد سافر عدد مرات لا بأس بها، لاسيما سفره إلى مصر. على غرار العديد من الفنانين

الشباب في تلك الفترة، حاول فلوبير الشذوذ جنسيا؛ حيث أنه أخبر صديقا له عقب زيارته لحمامات القاهرة قائلا: "إنها كانت مجرد مزحة، هذا كل شيء، ولكنني سأقدم على فعل ذلك ثانيا".
 "كي تتم التجربة بشكل جيد، يجب أن تكرر" (ورد في النص الفرنسي كلمة experience ولكن بشكل أوضح لتقارب الإنجليزية والفرنسية وجب أن تكون .experiment).

وفقا لما ورد بآخر أعماله "قاموس الأفكار النمطية" "
Dictionnaire des idées reçues" أنه قد أصيب بمرض الزهري، كواقع حال المعظم في ذلك الوقت تقريبا (حيث أن في تلك الفترة، كان فلوبير ورفاقه يتباهون بإصابتهم بمرض الزهري كدليل على فحولتهم وكثرة مضاجعتهم)؛ ومع ذلك كما روى ’جوليان بارتر‘ بكتابه "ببغاء فلوبير"، أنه قد حاز على حياة مهنية فعًالة وزاهية. على الرغم من وجود الكثير من الأمثلة التفصيلية بخطاباته إلى الشاعر لويز كوليت؛ إلا أننا نكاد لا نعرف شيئا عن شؤونه وعلاقاته الطويلة أو صداقته مع جوليت هربرت –تلك المربية الإنجليزية- التي ترجمت "مدام بوفاري" قبل نشرها. (النص المترجم الذي اسماه فلوبير ب "التحفة" قد اختفى).

"إنها سيرة ذاتية كتبت من أجل السرور والمتعة".
كتب وينوك هذه السيرة ليس لأن لديه شيئا جديدا لذكره، إنما كتبها كمؤرخ، يريد تصوير (حياة رجل من قرنه)؛ حيث أضاف قائلا "إنها سيرة ذاتية كتبت من أجل السرور والمتعة". ولكن المشكلة هنا تكمن من تصوير حياة رجل قد عاصره في العودة به وبالقراء إلى حقبة من "الملل والخزي من الوجود".
بحلول نهاية السيرة، سنجد أن وينوك قد أبتعد بشكل منظم عن تفاصيل مؤلمة غير سعيدة بحياة فلوبير –نوبات صرع، قرض ماله ومن ثمً خسارته- كالوصي البارع.
الفصل 25: اضطرابات الحزن
الفصل 26: الخراب المالي والفجيعة

أخبرني الكاتب الإنجليزي الأخير لسيرة فلوبير الأكاديمي الترحاب "جيفري وال" أنه اعترض على تجاهل الشهور الأخيرة بشكل كامل  لحياة فلوبير  من قبل الناشرين؛ منافيا لذلك الفعل ووصفه بأنه يعد قتل للسيرة الذاتية وإن كان قتلا رحيما للتخفيف من وطأة الأحداث، مصرا على أن "لا يمكنك أن تملك حياة دون الموت!".

كرس وينوك قدرا كبيرا من الاهتمام لرسائل فلوبير وروايته، وهذا في الواقع يعد بمثابة النقطة الرئيسة لشغف واهتمام أي كاتب لسيرة فلوبير.
عام 1830، بشكل شائع من بين الشباب الذين يتمتعون بفيض من المشاعر، أرادوا أن يكبروا-أو دون الكبر- كي يصيروا من الكُتًاب.
عام 2015، أظهرت نتائج استطلاع أجرته "
YouGov" أن ما يقرب 60 في المائة من الشعب البريطاني يودوا أن يكونوا مؤلفين، هؤلاء ال38 مليون شخصا قد يجدوا ضمن مراسلات فلوبير بعض النصائح المفيدة التي ستعنيهم.

"عش كالبرجوازيين، وفكر كأنك من نسل إله"
 أتل أحكامك بأعلى طبقة من صوتك كي تختبر تجانسهم وإيقاعهم.
لنقل الإثارة إلى المشاهد الرومانسية، أولا عليك بكتابة نسخة إباحية تنحاز إلى الوقاحة في التعبير ثم تقوم بالحذف والتنقيح، أقرب إلى حرق الخمر قبالة حلوى عيد الميلاد، ويبدو أن تلك الحبكة قد تمثلت بشكل جيد في كتاب "مدام بوفاري"، فقد حوكم مؤلفه عن الفحش الذي ورد بكتابه ولكن بعد ذلك قد تم تبرئته؛ حيث علق مستشار المحاكمة على عدم وجود أي من "ستر أو حجاب" في وصف فلوبير، ولكنه قد وجد من الصعب وضع إصبعه محددا تجاوز بالفجور واضح في وصفه.

 هذه السيرة الذاتية تضفي حسا جيدا من "تركيبة بؤس لا تكل"
"البعد عنه، الانغماس فيه، الالتفات منه مرارا وتكرارا، التفتيش عليه"
أشار فلوبير هنا، ليس في كل الكتاب، إنما خلال جملة واحدة. أكثر من أربع ظهيرة ومساء، استمع أصدقاءه إليه في إنصات تام وهو يردد ما كتبه في "إغواء القديس انطونيوس"، والذي استغرقت كتابته ثلاثة سنوات، والذي أخبروه حينها إما عليه بتكملتها أو أن يلقيها عبر النيران.

"لقد لاحظت فقط الأخطاء المطبعية، ثلاثة أو أربعة صفحات مكررين، صفحة واحدة وعدد وفير من كلمة "الذي"بها، أما نسبة إلى الباقي، كان أسود اللون، ليس أكثر من ذلك."
عندما نشر كتابه الأول "مدام بوفاري" وظهورها أخيرا في عام 1857، قال أنه قد شعر بالإحراج والمهانة عند رؤية نفسه في الطباعة.

"الذباب يطن في أكواب عصير التفاح الفارغة في مطبخ المزرعة، صوت مِقشّة من أفرع الشجر تنظف سطح العربة، كلب ينبح من على بعد".
السيرة الذاتية حتما تتكون بالكامل من التفاصيل الهامة. روايات فلوبير –سواء إن كان العنوان "الزنا في الأقاليم أو هلاوس قديس القرن الثالث في صحراء نتريان"؛ ولكن اعتبرها "رولان بارت"  "تفاصيل عقيمة".

وأخيرا: "من بين جميع الأمور التافهة المستفزة في عالم يحكمه الحمقى، هناك ألغاز مبهمة ينبثق منها ببطء أحكام مثالية قابلة للاكتشاف".
في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم 8 مايو 1880 دخلت عليه الخادمة حجرة مكتبه كي تقدم إليه الطعام فوجدته ملقى على الأريكة يتمتم بكلمات متقطعة غير مفهومة، فسارعت إلى إحضار الطبيب الذي لم يستطع أن يفعل شيئا  وبعد أقل من ساعة لفظ آخر أنفاسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

علاقاتٌ تاريخية ومصيرٌ واحد.

أشرقت شمس السماء وأشرقت معها حضارتان أضاءت الأرض بنورِهما وعرَّفت البشرية أن مِن عراقة الشعوب وتراثها؛ تتحق الإنجازات، وأنه بالس...